شخص مايكتب | في حضرة المحبوب

صورتها في المقطم - فبراير 2013

صورتها في المقطم – فبراير 2013

في رحاب القاهرة المزدحمة الصاخبة صمت الصوت وعلي صوت الصمت .. فكنت ونيسا لأنفاسها .. ومحتضنا لخوفها وغربتها.

سرنا وحدنا نتغني بأشعار الحرية, نتذكر الوطن المسلوب, ونحلم بالهدف المنشود ..

يعلو صوت صمتنا ..

تعلو أنفاس افكارنا..

اسألها ما يشغل بالك ..

تسكت ..

تفكر ..

تنظر لي ..

تقول “مافي شي .. صفنت”.

كان العالم من حولي ساكنا صامتا .. لا أسمع إلا صوت انفاسها .. أشعر وكأني أخيرا في وطني الذي سلب .. وطني الضائع الذي طالما حلمت به .. وبحثت عنه.

كانت عينيها تلعب دور لسانها .. كلما أحببت ان اسأل عن شيء كنت أنظر في عينيها .. دائما كنت أجد أصدق وأوفي الإجابات هناك.

سرنا نغني

موطني .. موطني

هـــــلْ أراكْ هـــــلْ أراكْ

سـالِماً مُـنَـعَّـماً وَ غانِـمَاً مُـكَرَّمَاً

هـــــلْ أراكْ فـي عُـــلاكْ

تبـلُـغُ السِّـمَـاْ تبـلـغُ السِّـمَا

مَــوطِــنِــي مَــوطِــنِــي

وهنا تلاقت عينانا وتذكرنا حال وطننا .. وتابعنا الغناء ..

أهو ده اللي صار .. وأدي اللي كان .. ملكش حق .. ملكش حق .. تلوم عليَّ

تلوم علي إزاي يا سيدنا .. وخير بلادنا ماهوش بأيدنا 

قولي عن أشياء تفيدنا وبعدها أبقى لوم عليَّ

وكانت كلما غنت .. أشرد واصمت .. ويأخذني صوتها إلي هناك إلي الوطن إلي الحلم إلي المقاومة والعودة.

 كانت عذوبة صوتها تأخذني إلى جنان الخلد .. إلى عالم لم يكتب عنه الحالمون ..

وقفت تحتضن باقة الزهور دامعة العينين..

وجلست صامتا أنظر لها ..

اختلست النظر اليها صامتا شاردا باحثا في عينيها عن إجابات لأسئلتي.

هل تحبينيني .. ؟

وكانت تجيبني انفاسها الدافئة قائله ” نعم  أحبك “

هل تعديني أن تكوني لي ولا أحد سواي يملك قلبك مثلما امتلكته ؟

وتجيبني عيناها المبتلة بالدموع .. ” أعدك”

وتحتضني ..

وأضمها إلي بقوة ..

وتمضي الدقائق .. ولا نشعر بما حولنا.

تغرقني انفاسها في دوامة الفراق ..

لا ترحلي .. اكره الوداع

لا ترحلي .. أحببت وجودك وكرهت فراقك

عشقت صمتك وغناكي ونفسك وثورتك وايمانك بحلمك.

في آخر لحظات تجمعهما قبل الرحيل طاف بيتهم باحثا عن كل ذكري حفرت في هذا المكان  .. موثقا لتاريخ لن تذروه رياح النسيان ..

وقف على الأطلال في ذلك الشارع ..

تذكر خوفه وقوته وإصراره على الإنتصار ..

وتذكر احباطه وانكساره واحساسه بالضياع بعدما خمدت نيرانهـا وحان وقت الرحيل.

تذكر لحظات الفراق ..

ذلك الفراق الذي سلبه كل عزيز وغالي..

ذلك الفراق الذي كتب في ذاكرته .. اكثر السطور ألما ..

تذكر البدايات ..

تذكر الحلم الذي فات ..

تذكر اللحظات الأولى للوليد .. سمع صوت صراخه ..

تذكر اندفاعه نحو حلمه .. صراع الأم مع نفسها وألمها حتى حضر وليدها إلى تلك الدنيا.

تذكر تلك القصة الاسطورية ..

في قديم الزمان .. حين لم يكن على الأرض اناس بعد, كانت الفضائل والرذائل تطوف العالم معا وتشعر بالملل الشديد ..

وذات يوم, وللخروج من ذلك الملل.

اقترح الجنون لعبه وأحبها الجميع.

فصرخ الجنون ” أنا سوف ابدأ .. أنا من اقترحتها, سوف اغمض عيني وابدأ العد وأنتم سوف تختبئون”

واتكأ الجنون على شجرة وبدأ: واحد .. اثنان .. ثلاثة .. وبدأت الفضائل والرذائل بالاختباء.

الرقة وجدت لنفسها مكانا على القمر

وأخفت الخيانه نفسها في كومة طين .. واندس الامل بين الغيوم..

والكذب قال بصوت عال: ساخفي نفسي تحت الحجارة.

ومضي الشوق إلى قعر بحيرة طبرية ..

وتابع الجنون العد .. تسعة وسبعون … ثمانون .. واحد وثمانون.

خلال ذلك أتمت الفضائل والرذائل اختباءهـا … ماعدا الحب كعادته – لم يكن صاحب قرار – ولم يعرف اين يختفي ..

تابع الجنون وحتى وصل إلى المائة .. قفز الحب داخل شجيرة ورد واختفي بداخلها .. فتح الجنون عينيه وبدأ البحث عن الجميع.

كان الكسل أول من انكشف لأنه لم يبذل أي جهد في إخفاء نفسه ثم ظهرت الرقة المختفية في القمر, وبعدها الأمل..

وخرج الشوق من قاع بحيرة طبرية مقطوع النفس ..

لقد وجدهم الجنون جميعا واحدا بعد الآخر, ماعدا الحب .. فكاد يصاب بالإحباط واليأس, لكن الحسد أقترب منه وهمس في أذنه: الحب مختف في شجيرة الورد .. 

التقط الجنون شوكة كبيرة كرأس رمح, وبدأ يطعن شجيرة الورد ولم يتوقف عندما سمع صوت بكاء يمزق القلب .. وظهر الحب وهو يحجب عينيه بيديه والدم يقطر من بين أصابعه..

صاح الجنون نادما يا إلهي ماذا فعلت!! ماذا أفعل كي أصلح غلطتي بعد أن أفقدتك بصرك؟!

أجابه الحب: لا تستطيع إعادة النظر إلى, لن تستطيع.

مرت أيام والحزن يخيم على كل شيء, وذات صباح عاد الجنون وقال للحب: أريد أن أصلح غلطتي .. ساعدني 

فرد الحب: هل أنت متأكد من ذلك. أيا كان ما سأطلبه منك؟! 

فقال الجنون: سأفعل كل ما تريد.

أطرق الحب, وبعد صمت طويل قال:    كن دليلي ..

رد الجنون: أنا !! 

أجاب الحب: نعم أنت … 

وهذا ما حصل منذ تلك الأيام, يمضي الحب في الأرض أعمي .. يقوده الجنون.

ويتذكر الإنسان أنه في سبيل الحب ممكن ان يواجه الرصاص ليحرر وطن ولينصر مظلوم وليكون ذلك الثائر الذي تحركه عاطفته ليواجه الموت, أو ان يعبر حدود ويسافر بلاد أو ان يسهر الليالي ينغزه في انتظار من يحب.

….

الذكريات .. الحجة الوحيدة التي يتحايل بها الانسان علي الزمن ليثبت ذاته، فلولا الذكريات لظننت ان العمر مضي واني مررت مرور الكرام.

وأنا اليوم حي لأثبت ذاتي وانتصر لنفسي مادمت حيا ومع كل يوم يمر تختبرني الحياة وأبيت ليلتي انتظر النتيجة ناجح فاستحقها أو راسب لا خيار ثالث.

وأحدث نفسي وأذكر نفسي بما نسيت، أتذكر حلمي وأصدقه واتذكرخوفي واقتله واتذكر حبي وأعظمه واتذكر جرحي ولا أجد له دواء.

دائما ماكنت أقول لها لا تقولي تصبح على خير .. ولكن قولي لي “تصبح عليَّ” .. فلماذا انتظر ان يقرر القدر لي ما أصبح عليه, وأنتي اجمل ماخلق الخالق لأراه بعد ثبات طوال الليل.

في حضرة الغياب .. وقفت خاشعا.

في حضرة الحب .. أبتسمت.

في حضرة الشوق .. جن جنوني.

في حضرة المحبوب .. اصمت .. أبتسم .. أدقق النظر في تفاصيل وجهها .. أجلس شارد الذهن إلى أن أتذكر .. دائما بعد اللقاء لابد وأن تأتي لحظة الفراق.

…..